كما لو أن مصائب إدارة الرئيس بوش في العراق -الحرب، والعنف اليومي، والنزوح، وتفشي الفقر- لم تكن تكفي؛ وكما لو أن الخداع والأكاذيب التي سعت إلى تبرير الحرب والغزو لم تكن تكفي؛ وكما لو أن الإيهام الذاتي ورفض رؤية الإخفاق الذي آلت إليه حرب العراق لم يكن هو أيضاً يكفي؛ وكما لو أن زيف الادعاءات بشأن جلب الديمقراطية وحكم القانون لم يكن كذلك؛ بتنا اليوم نعرف أيضاً أن إدارة بوش تحاول التستر على واحد من إخفاقاتها الكثيرة: حجم الفساد المستشري في العراق -الذي وصفته منظمة "ترانسبارنسي إنترناشيونال" بأنه واحد من أكثر دول العالم فساداً. ففي تقرير رسمي حصل صحافي إذاعة "بابليك راديو" في بغداد، كوري فلينتوف، على نسخة منه، أعلن محققو وزارة الخارجية الأميركية في العراق أن حجم الفساد المتفشي في الحكومة العراقية كبير إلى درجة أن الحكومة تعجز عن فرض حتى أبسط قوانين محاربة الفساد. كما أفاد محققون أميركيون بأن الوزارات العراقية ترفض التعاون مع "اللجنة العراقية للنزاهة العامة" التي كان مسؤولوها يُمنعون من الوصول إلى المكاتب الحكومية. وقد أعلنت إذاعة "بابليك راديو" أن موظفاً من وزارة الداخلية العراقية أخبر مراسلها بأن "مسؤولين كبارا في الوزارة يجنون أموالاً طائلة من العقود المخصصة لشراء التجهيزات"، وبأن "أفراد الشرطة يقدمون الرشاوى من أجل الحصول على الترقيات". إلى ذلك، نُقل عن القاضي العراقي راضي حمزة الراضي، الرئيس السابق لـ"اللجنة العراقية للنزاهة العامة" الذي طلب اللجوء في الولايات المتحدة، قوله للجنة من الكونجرس الأميركي حول الفساد في العراق إن محققيه كشفوا عن فساد "متفشٍّ" في الوزارات العراقية قد يكون كلف البلاد ما يناهز 18 مليار دولار. وفي هذا السياق، قال الراضي: "لقد توصلنا إلى أن الفساد طال كل شيء"، مضيفاً: "إن الفساد ينخرهم إلى درجة أنهم سيهاجمون منتقديهم وأسرهم بالأسلحة والاتهامات المضادة بالفساد". (واشنطن بوست، 5 أكتوبر 2007) وبالفعل، فقد طال الفساد المئات من مشاريع الإعمار وإصلاح الشبكة الكهربائية وأنابيب النفط؛ إذ يُظهر تدقيق للحكومة الأميركية بخصوص إعادة الإعمار أنه من بين الـ30 مليار دولار التي وافق عليها الكونجرس لإعادة إعمار العراق، فإن 8 مليارات دولار على الأقل اختفت عن الأنظار. أما المسؤولون الذين يتحلون بالشجاعة ويعلنون عن وجود ممارسات غير قانونية، فإن مصيرهم يكون في الغالب تشويه السمعة وتنزيل الرتب وأموراً سيئة أخرى. فالمجند السابق في سلاح البحرية دونالد فانس مثلاً، والذي تجرأ على الإعلان عن مبيعات أسلحة غير قانونية، زج به الجيش الأميركي في العراق في السجن، و"تعرض لأساليب استنطاق قاسية". وهو ما أكده تحقيق لوكالة "أسوشيتد بريس" حول حالات مماثلة، وخلص إلى أنه "لا توجد عواقب محمودة بالنسبة للأشخاص الذين يطلقون صيحات التحذير" (أسوشيتد بريس، 25 أغسطس). كما رفضت إدارة بوش الانضمام إلى أي من الدعاوى المرفوعة في المحاكم الأميركية منذ 2004 حول ممارسات غير قانونية طالت عقود إعادة الإعمار العراقية التي يقال إن قيمتها بعشرات الملايين. علاوة على ذلك، فعندما طلبت لجنة من الكونجرس الحصول على نسخة من تقرير وزارة الخارجية حول الفساد في العراق، رفضت وزارة الخارجية التعاون، وقررت بدلاً من ذلك إضفاء طابع السرية على التقرير. وقد كان ذلك قراراً غريباً على اعتبار أن التقرير كان قد تعرض للتسريب من قبل، كما أن التقرير الكامل سبق نشره في موقع "فيدرالية العلماء الأميركيين" على شبكة الإنترنت. وهكذا، أرادت وزارة الخارجية الاحتفاظ بتقرير رسمي، هو في الأصل متداول على نطاق واسع، بعيداً عن المشرعين الأميركيين في محاولة لإخفاء الإخفاقات وتفادي المحاسبة. وقد غضب هنري وكسمان، رئيس لجنة المراقبة التابعة لمجلس النواب الأميركي، من رفض وزارة الخارجية التعاون، فكتب إلى وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس يقول: "من الواضح أن موقف وزارة الخارجية من هذه المسألة سخيف". وأضاف قائلاً: "إذا كان الفساد مستشرياً داخل حكومة المالكي، فهذه معلومة من حق الكونجرس والجمهور أن يعرفاها"، محذراً من أن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس قد تجد نفسها في مواجهة مع الكونجرس لأن "هذه الجهود الرامية إلى إسكات النقاش محرجة للغاية" (واشنطن بوست، 5 أكتوبر 2007). كما حذر أربعة مشرعين أميركيين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس من أن "استشراء الفساد" في العراق يغذي التمرد، واتهموا وزارتها بالتستر عليه (وكالة الأنباء الفرنسية، 13 أكتوبر 2007). ومن جانبهم، كتب 12 نقيباً من الجيش الأميركي سبق لهم أن عملوا في العراق في صحيفة "واشنطن بوست" حول حتمية الفشل العسكري في العراق، فأشاروا من جملة ما أشاروا إليه إلى أن "تفشي الفساد على جميع الأصعدة إنما يكرس حالة العجز عن الحكم... فالعديد منا كان شاهداً على استغلال أموال الضرائب الأميركية من قبل مسؤولين وعسكريين عراقيين... ومع ذلك، فإن محاسبة الأشخاص تبين أنها أمر صعب" (16 أكتوبر 2007) إن فضيحة الفساد والتستر، وفضيحة التعذيب ومذكرات التعذيب السرية التي أعقبتها، والأكاذيب والتضليل بخصوص الحرب، وعدم احترام الأرواح البريئة العراقية كلها أمور تنضاف إلى قائمة طويلة من الإخفاقات في العراق. وبدلاً من نموذج للحكم الديمقراطي في العراق، فإن إدارة بوش خلقت في العراق بيئة حبلى بإلاخفاقات؛ وبدلاً من حكم القانون والشفافية، تسببت في الفوضى والفساد. وبدلاً من المجتمع المدني، تسببت في حرب أهلية. فكم من الإخفاقات الأخرى تستطيع إدارة بوش أن تتحملها، من دون أن يضر ذلك بمصداقيتها؟